الجسم السليم في العقل السليم

كثيرًا ما نتحدث عن أهمية اللياقة البدنية في حياتنا اليومية أو عند ممارسة رياضة تتطلب جهدًا بدنيًا، سواء كانت رياضة نافعة كالمشي، الركض، السباحة أو رياضة ترفيهية ككرة القدم، كرة السلة، أو حتى تنس الطاولة.

مع أني أوافق تماما على أهمية اللياقة البدنية وأثرها على أدائنا وعلى حالتنا الصحية، لكنني أرى اللياقة الذهنية هي الأهم عندما يتعلق الأمر بقدرتنا على تجاوز الصعاب او الإنجاز على مستوى عالٍ في أية رياضة نمارسها أو أي عملٍ نقوم به.

في رحلتي الاخيرة الى جبال المغرب العربي، كنت برفقة مجموعة من الشباب ممن هم في سن أولادي لتسلق اعلى قمة جبلية في شمال افريقيا ويبلغ ارتفاعها ٤١٦٥ مترا عن سطح البحر.

للوصول الى القمة مشينا ثلاثة أيام على الأقدام في طرقات جبلية ضيقة وعرة حيث لا يمكن للسيارات الوصول، والركوبة الوحيدة المتوفرة في هذه الجبال هي البغال، وهي تتميز عن الخيل بأنها تحتمل السير في الطرقات الصخرية الصعبة وتحمل الأمتعة الثقيلة.

في الطريق نال التعب منا جميعًا. وتساقط بعض رفاقي واحد تلو الآخر. كانوا - مثلي - ممن لا تبدو عليهم اللياقة البدنية على الإطلاق ولم أستغرب ذلك. وكنت اسأل نفسي متى سيحين دوري وأطالب ببغل مسكين يحملني الى مقصدنا مثل الإخوة الذين سبقوني. خاصة انني أعاني من صعوبات في النوم. حتى في أيامي العادية وعلى سريري الخاص، كثيرا ما اجد صعوبة في النوم. المهم اني وخلال الليلتين السابقتين لم أنل قسطًا من النوم يساعدني على تحمل المشقات، حيث لم تتجاوز ساعات نومي أصابع اليد الواحدة في آخر ثلاث ليالي مجتمعة. وفي منتصف اليوم الثالث وقبل الوصول إلى سفح الجبل الذي قصدنا تسلقه، حصل ما لم أتوقعه. فقد كان معنا أحد الإخوة والذي لم يتجاوز العشرين من عمره، وكان أصغر أفراد المجموعة عمرًا. وكان من ذوي النشاط الملحوظ في اليومين الأولين، والذين على صعوبتهما لم يكونا يتطلبان الكثير من الجهد إذا ما قارناهما باليومين الأخيرين، وكان ذو بنية رياضية واضحة، إلا أن الإرهاق نال منه في وسط طريق كان من أصعب الطرق التي سلكناها في رحلتنا هذه. فقد كان عبارة عن طريق جبلي ضيق جدًا، يبدأ في سفح جبل شاهق الارتفاع. وإذا نظرت الى قمته من أسفل تشعر أنك أمام حائط صخري مرتفع بشكل عمودي، وليس أمام جبل يرتفع بزاوية منحدرة كباقي الجبال، ولأن ارتفاعه عمودي فقد كانت الطريق المحفورة على حافته مخطوطة على شكل العدد ٤، حيث تبدأ بالسير بتفريعة باتجاه الشمال لمسافة تصل إلى مئة متر تقريبا، ثم تعود لتسير في اتجاه الجنوب، وكل هذا صعودا بالطبع، وتمتد هذه التعرجات الى المئة تفريعة تقريبا. مما يعطيك مسافة تصل الى عدة كيلو مترات للوصول الى قمة هذا الجبل. وعلى ما يبدو ان هذه التعرجات التي ألقت بعدد من الاخوة ذوي اللياقة الضعيفة ذهنيا وبدنيا في مراحلها الاولى. تمكنت من هذا الأخ في منتصفها. فانهار تماما وافترش الارض ولم يعد يقوى على الوقوف فضلا عن مواصلة المسير. وقد كان له ان حدثني في بداية رحلتنا عن نشاطه الرياضي اليومي، وكيف كان يقود دراجته الهوائية يوميا ساعتين كاملتين كي يحافظ على رشاقته. ورغم كل محاولاتنا بإقناعه انه يستطيع إكمال المسير ولأننا لم يعد لدينا بغال لحمله، حيث أن البغال التي ترافقنا عددها محدود، وهي مخصصة أصلا لحمل متاعنا وطعامنا ولاستخدامها في حالات الطوارئ، إلا أنه أبى أن يكمل المسير وأصر على البقاء في مكانه. فما كان من أمر المرشد إلا أن بقي معه لحين عودة أحد البغال التي كانت تنقل من سقط قبله من الإخوة في بداية الطريق من المخيم.

ومن الجدير ذكره أنه في ذلك اليوم، وبعد بلوغي قمة ذلك الجبل ذي التعرجات المئة، وكان قد نفذ مني ما أحمله من ماء الشرب، واشتدت الالام في رأسي لقلة النوم والارهاق ، اني اكتشفت ان الدليل قد اخفى عنا معلومة في غاية الأهمية. وهي ان المعسكر الذي نقصده للمبيت لا يزال على بعد مسيرة ثلاث الى خمس ساعات، حسب سرعة المجموعة في التنقل وتفاوت مستوياتنا البدنية والذهنية، وقد كان اخبرنا ان المعسكر يقع خلف القمة. وهو صادق في ذلك، دون تحديد معنى خلف القمة. وقد كانت مغامرة اخرى من تلك النقطة حتى بلوغي المعسكر قد اتحدث عنها في مقال اخر وفي باب اخر. في تلك الليلة، وانا مستلق في خيمتي استعيد بعض من طاقتي استعدادا لتسلق القمة عند الفجر سألت نفسي ما الذي جعلني قادرًا على الاستمرار حتى هذه المرحلة وانا في هذا العمر وهذه الحالة البدنية الرثة ؟ وقد شعرت مراراً خلال رحلتنا هذه اني لن أستطيع القيام بخطوة إضافية واحدة، وأني سأنهار في اي لحظة قادمة، الا انني ولدهشتي كنت أجرجر رجلي اللتين لا تكادان تحملاني واتابع المسير، متجاهلًا الألم والإرهاق الذي اشعر به. فلم أجد سوى تفسير منطقي واحد. وهو انني على الرغم من حالتي البدنية السيئة، الا انني دائماً ما اشعر بقوة في داخلي دائماً ما تدفعني الى تجاهل الالم وتعطيني الطاقة والقوة لإكمال المسير بإذن الله وقدرته. وهذا ما يسمى باللياقة الذهنية. وهو في كثير من الأحيان ما يميز الأشخاص الذين يتفوقون على أقرانهم من الذين يساوونهم او يتفوقون عليهم باللياقة البدنية. وهنا خطرت ببالي بعض التصرفات التي أمارسها في حياتي اليومية من وقت لآخر. والتي اعتبرها تحدٍ لنفسي وجسدي ولإثبات مدى قوة تحملي الداخلية، والتي قد لا يراها او يقتنع بها من ينظر ألي دون ان يعرفني عن قرب. من تلك التصرفات وعلى سبيل المثال لا الحصر، قصتي مع طبيب اسناني. فعلى الرغم من انني وكباقي البشر، الذين اعرفهم على الأقل، اكره الذهاب الى طبيب الأسنان كرها شديدا، الا أنني وعندما اذهب لعلاج أسناني سواء كان لحشوة ضرس او استئصال العصب من داخله او حتى خلعه كليا، فاني اطلب من الطبيب ان لا يستخدم البنج على الإطلاق. وكثيرا ما كنت ارى نظرات السخرية في أعين الأطباء الذين عرفتهم طوال حياتي عند زيارتي الاولى لهم، وكانهم يقولون لي لنرى كم ستستحمل الالم، وكيف ستصرخ بعد قليل طالبا الحقنة المسكنة. الا إنني ولله الحمد، خيبت امالهم حتى الان على الأقل. واذكر مرة انني ارتدت في زيارة أولى عيادة لطب الأسنان في لندن. وكانت طبيبة إنكليزية شابة هي من تولى علاجي، وقد كان عليها استئصال العصب من ضرسين اكل الدهر عليهما وشرب ( حرفيا). وبعد عدة محاولات منها لاقناعي باستخدام البنج، والتي باءت كلها بالفشل امام عنادي، نظرت في عينيها وهي تدخل الابرة اللولبية في لثتي لاستئصال العصب، فإذا هي تدمع ويبدو عليها الخوف، فحاولت ان ارسم ابتسامة على وجهي رغم الآلام التي اشعر بها كي اطمأنها قليلاً. وقد كانت دائماً تسألني كيف أستطيع تحمل كل هذا الالم، فكنت دائماً أجيبها لو انك عشت وعانيت ما عاناه أبناء شعبي، لما سألتني هكذا سؤال. قد تبين لكم هذه القصة ما احاول الوصول اليه، فتحمل الصعاب، وتخطي العقبات يتطلب جهدا نفسيا او قوة داخلية لا علاقة لها بالبنية الجسدية رغم انها تعتبر اضافة مهمة في هكذا أوقات. قيل قديما ان العقل السليم في الجسم السليم. ومع أنني لا أعارض هذه المقولة أبدًا، الا أنني أرى ان العقل السليم، قوة الإرادة، والارتقاء بالنفس كثيرا ما يرفع من اداء الجسد وان كان سقيماً.